كثيراً ما نسمع عن الاقتصاد السلوكي وخاصةً في العام الماضي بعد فوز ريتشارد ثايلر Richard Thaler بجائزة نوبل لمساهماته بالاقتصاد السلوكي.
لكن ما هو الاقتصاد السلوكي Behavioral Economics؟
في سلسلة المقالات هذه سأحاول التقديم وشرح بعض المفاهيم الأساسية في الاقتصاد السلوكي وكيف يمكن لأي شخص أو مشروع استخدامه.
هل الإنسان كائن عقلاني؟
لنبدأ بهذا المثال:
من منا لا يذكر مثال القطار أو مثال المشفى الذي يعرضه لنا برنامج بألعاب العقل أو غيرها من البرامج والمحاضرات؟
لو كنت طبيباً في إحدى مناوباتك بالإسعاف ومع الأسف كنت بمفردك، حينما أُدخل إليك مجموعة أشخاص تعرضوا لحادثين مروعين:
الحادث الأول خرج منه شخص بحالة خطرة للغاية وربما ستكون نهايته قريبة في حال لم يتم إسعافه.
وفي المقابل لديك في الحادث الثاني خرج منه 4 أشخاص بحالة ليست خطرة لكن من الممكن أن تتطور وتزداد خطورتها في حال لم يتم معالجتهم فوراً.
لو كنت طبيباً مناوباً وتعرضت لموقف مشابه، كيف سيكون قرارك ومن ستختار لإنقاذ حياته؟
في الحقيقة، فإنك على الأغلب ستختار إنقاذ 4 أشخاص مقابل ذلك المريض الوحيد.
حسناً، لنفرض أنك تمر الآن بتجربة أو حالة مختلفة.
أمامك الآن شخص سليم يقوم بفحوصات عادية ودورية في المشفى، وفي الغرفة الثانية لديك 4 أشخاص كل واحد منهم يحتاج إلى عضو معين ليبقى على قيد الحياة، الأول بحاجة إلى كلية، الثاني إلى بنكرياس، الثالث إلى قلب، والرابع إلى رئتين.
يا ترى هل ستضحي مرة ثانية بشخص واحد لكي تنقذ في المقابل 4 أشخاص كما فعلت في الحالة الأولى؟
لو عدنا الآن إلى الاقتصاد وقواعده التقليدية، فإن نظرياته تقول بأن الإنسان كائن عقلاني ورشيد. ولكن الحالتين السابقتين أثبتتا عكس ما جاءت به هذه النظريات، ومن هنا ظهر ما يسمى بالاقتصاد السلوكي، الذي يعتمد على الاقتصاد وعلم النفس مع بعضهما ليفسر السلوك الإنساني.
نشأة الاقتصاد السلوكي
تعود نشأة الاقتصاد السلوكي إلى فترة طويلة، في حين أن نشأته بشكله الحالي تعود لعالِمين هما: كانمان وتفيرسكي (Daniel Kahneman & Amos Tversky) اللذين بدآ بدراسة انحيازات الحدس biases of intuition، وهي الانحيازات التي تؤثر في صناعة القرار، وذلك بهدف تحسين وفهم الأخطاء في الأحكام والخيارات لدى الآخرين.
كانمان صادف تفرسكي عام 1969، في الوقت الذي كان فيه تفرسكي بصدد إجراء بحث ليجيب عن السؤال: هل يتمتع الناس بمهارات إحصائية حدسية جيدة؟
ومنذ ذلك الوقت بدأ التعاون بينهما، ليخرج أول بحث مشترك لهما عام 1974 وهو: إصدار الأحكام في ظل عدم اليقين: طرق الاستدلال والانحيازات (Judgment under Uncertainty: Heuristics and Biases).
أما عن ثاني بحث فقد كان عام 1979: نظرية التوقع: تحليل لعملية اتخاذ القرار في ظل المخاطرة (Prospect Theory: An Analysis of Decision under Uncertainty).
ويعتبر هذين البحثين من أهم الأبحاث في الاقتصاد السلوكي، وحسب ما قاله كانمان في كتابه التفكير السريع والبطيء (Thinking, Fast and Slow) فإن هذين البحثين سيعرفاننا على تلك الأمور البسيطة التي نعرفها منذ زمن، لكننا لم نكن نستخدمها.
فمن المؤكد أن الاقتصاد السلوكي لم يظهر كشيء خارق فجأة، لكن العلماء سابقاً كانوا يميلون لافتراض العقلانية عند الأشخاص لعدة أسباب منها: سهولة الدراسة ونمذجتها والتنبؤ فيها.
الاقتصاد السلوكي ليس بالفرع الوحيد
الاقتصاد السلوكي نشأ -بالتزامن تقريباً- مع مجموعة فروع أخرى في الاقتصاد وكلها تدور حول فكرة رئيسية هي رفض العقلانية كأساس للنظريات الاقتصادية.
وبالفعل تم استخدام الاقتصاد السلوكي بشكل واسع ومتعدد بدءاً من التطبيقات التسويقية ووصولاً لتطبيقه على السياسات الاقتصادية.
في المقال القادم، سأتحدث بتفصيل أكبر عن أساسيات الاقتصاد السلوكي، وحتى ذلك الوقت يمكنكم أن تشغلوا أنفسكم بالتفكير ببعض التطبيقات أو المواقف التي نتصرف فيها استناداً لعاطفة أو أي تحيز معين، أو يمكنكم التفكير بأي مشروع أو شركة ناشئة تواجه صعوبة في التنبؤ بسلوك عملائها والتعامل معهم، وخاصةً في حال كان تعتبر أن العميل أو المستخدم سيتصرف بشكل عقلاني وبالتالي تبني سياساتها التسويقية أو حتى استراتيجياتها على هذا الأساس!
اقرأ أيضاً: الاقتصاد السلوكي – الاستدلال والتحيز
ممكن يا فندم حالة عملية أو تطبيق عملي للاقتصاد السلوكي