في عام 2015 تبنّيت وصف ذاتي أول مرة كشخص “عدمي”، حيث شعرت بأنه الوصف الملائم لجميع الأفكار التي بت أؤمن بها مؤخرًا وشعرت بأن العدمية هي الانتماء الوحيد.
عن العدميّة
العدمية باختصار هي الإيمان بعدم وجود معنى واضح وحقيقي للحياة أو حتى للوجود، وبالتالي فإن كل محاولاتنا للتغيير أو للعيش حتى قد تبدو بلا معنى.
بالطبع العدمية ليست بهذه البساطة، ومن أكبر الأخطاء الشائعة أن يتم ربطها فقط مع الميل للانتحار أو الإلحاد أو بأي موقف آخر. فلدى سيوران اتخذت السخرية الشكل الأخير والمبرر الوحيد للوجود، أما نيتشه فقد استخدم العدمية في تحليله للتاريخ البشري. قد تتخذ العدمية شكلًا عبثيًا، أو قد تدفع البعض للانتحار، وقد تدفع البعض الآخر للبحث عن الحكمة الأخلاقية دائمًا، وربما يراها البعض بمثابة موقف سالب إيجابي أيضًا.
تنشأ العدمية كرد فعل على حالة من الصراع مهما كان نوعه، أي ذلك النوع من الصراع الذي يعيشه الإنسان عند محاولته للإجابة عن بعض الأسئلة الوجودية، أو الصراع الذي قد يواجهه عند تعرضه لأي وضع غير طبيعي يمسّ وجوده.
قراءاتي العدميّة
في الحقيقة لا أستطيع القول بأن الكتب فقط هي من كان السبب في تغيير أفكاري بعنف بتلك الطريقة، لكني كنت مدركة بأن الحرب بعبثيتها كافية لإقناعك بأنك مجرد لا شيء. أو كما تقول العبارة التي قرأتها يومًا ويقال بأنها تعود لأحد الفلاسفة الإغريق “نحن مجرد ذرة غبار على سطح هذا الأوقيانوس الكبير”.
لم أكن أقرأ لكتّاب عدميين فقط، بل قرأت لكل ما يمكن أن يمت للعدمية بصلة مثل العبثية، الوجودية، أو للكتّاب المتشائمين أو المنتحرين لإيمانهم باللاجدوى أيضًا. وبالطبع لم أكن أؤمن بجميع أفكارهم فقد كان لابد لي من التدخل ووضع تعديلاتي الخاصة. قراءاتي بشكل أساسي كانت لسيوران، بيسوا، بودلير، دوستيوفسكي، كافكا، سارتر، كامو، بيكيت، فلوبير، المعري، آن ساكستون، سيلفيا بلاث، وغيرهم..
العدميّة والتوقف عن الحياة
إعلاني بتبنّي العدمية لم يترافق مع إيقاف حياتي أو مشاريعي أو محاولتي لتنفيذ أفكاري اللامنتهية، بل على العكس من ذلك كنت أؤمن بشدة بأنه خلال فترة الحرب تقع عليّ مسؤولية أكبر. وقد كان ذلك السبب هو السبب الرئيسي الذي منعني من السفر ومتابعة دراستي في بلد آخر. وبالطبع لم أكن أناقض نفسي بذلك فكما ذكرت تحمل العدمية عدة أوجه وقد كان أحد الأوجه التي أومن بها هي أن العدم بانتظارنا جميعنا ولن يستطيع الإنسان بضعفه وإمكاناته المحدودة أن يتصدّى له، لذا يجب عليه أن يقوم باستغلال إمكانياته تلك بأفضل وسيلة ممكنة ضمن الوقت المحدود.
الجدير بالذكر أني كنت مدركة تمامًا بأن أي فلسفة أو فكرة ليست إلا رد فعل لوضع معين، وكنت متأكدة من أن حالة العدمية التي عشتها كانت مرحلة مؤقتة إلا أني لم أعمد أبدًا لتغييرها!
تجربتي مع العدمية خلال ثلاثة أعوام
كما ذكرت بدأت بتبني العدمية بشكل رسمي منذ بداية 2015 تقريبًا أو حتى في نهاية عام 2014، وقد ترافق ذلك مع مجموعة من المشاكل الأكثر تأثيرًا في حياتي حتى الآن.
عام 2015 كان عامًا للصدمات منذ بدايته، وقد شعرت لأول مرة بمدى انعدام ثقتي بنفسي. ترافق ذلك العام مع تخرجي ومحاولتي للبحث عن عمل والتي باءت بالفشل في نهاية المطاف.
عام 2016 كان عامًا فلسفيًا، كنت أحاول فيه تفسير كل ما حولي والإجابة على أسئلتي بشكل منطقي. ترافق ذلك العام مع السنة الأولى لي في دراسة الماجستير والتي شعرت فيها بضغط كبير بسبب الدراسة، تسبب لي بحالة من اليأس في النهاية.
عام 2017 ترافق مع جولاتي في حلب القديمة والأحياء الشرقية جميعها تقريبًا، وبالتالي فإني قد استقبلته بنوبات بكاء لا تنتهي. شعرت بالشلل والعطب وقلة الحيلة وحتى الفشل. كل ما كنت أفكر به هو تلك التفاصيل التي تخص كل الأشخاص الذين تضرروا بشكل أو بآخر. كنت أمشي لساعات طويلة وأرسم في ذهني قصصًا لكل من أصادفهم. كنت أستقل الباصات المتجهة للأحياء الشرقية لدورة أو دورتين حيث أجلس في مكان يتيح لي تأمل جميع الركاب وأظل أراقبهم بصمت وحرقة كبيرة. شعرت حينها بما يشبه المسؤولية للتوثيق لكني كنت عاجزة عن كتابة أي حرف، كنت أشبه بأخرس يتمنى لو ينطق بكلمة واحدة فقط!
تاريخي مع العدمية والكتابة
على اعتبار أن عام 2015 كان صادمًا بالنسبة لي، فقد شعرت فيه بنوع من العزلة أثرت بشكل سلبي عليّ عاطفيًا ونفسيًا. حاولت التعبير عن ذلك باستخدام الكتابة لذلك فإن أهم ما يميزه هو سلسلة تدوينات كتبتها تحت عنوان “يوميات الصمت العادي” وقد كانت سوداوية بامتياز تخللها محاولات لتذكر نفسي قبل ذلك.
عام 2016 كان خاويًا باستثناء بعض التدوينات التي تمحورت عن حلب والسفر وبعض آرائي.
عام 2017 كتبت فيه فقط تدوينة واحدة عن رحلتي الأولى لحلب، وقمت بإضافة أخرى منذ بضعة أيام فقط!
هل كان من الممكن تخفيف عناء تلك التجربة؟
كثيرًا ما نقرأ عن شاعرية الحب في الحرب أو حتى قد نشاهد ذلك في الأفلام وغيرها. كنا نرى بأن الحب هو الذي يزرع الجمال ويحيي الأرض التي أماتتها الحرب، لكني أعتقد بأن للحب وظيفة أكبر من تلك الوظيفة الشاعرية.
برأيي تكمن التجربة في نقل الفرد من حالة الذوبان الموضوعية، إلى حالة الزهو الذاتي. أي تحوله من مجرد رقم في عداد السكان أو المصابين أو الهاربين من الموت أو الحائرين بتقرير مصيرهم واتخاذ خطوة قادمة أو حتى الذين ينتظرون قدرهم دون أن يحركوا ساكنًا، إلى شخص يعتبر ذاته محورًا أو ربما فقط شخصًا ذو أهمية لشخص آخر يقوم بمراقبة ومتابعة تفاصيل حياته التي ضاعت وسط كل زحام الحرب.
وبالتالي فإني أعتقد بأن كل تلك الآثار كانت ستكون أخف وطأةً وأقل أثرًا لو تدخل الحب قليلًا ليملأ بعض الأجزاء الفارغة في حياتي.
نهاية رحلتي مع العدميّة
أستطيع القول الآن وبكلمات لا عودة بها بأني منذ شهر فقط قررت التخلي عن تسمية نفسي كشخص عدمي، ليس لأني قررت ذلك فحسب، بل بسبب ترافق ذلك الشهر مع مجموعة من التغييرات التي ساقها القدر دون تدخل مني مع بعض التغييرات التي قمت بها بنفسي وبجهد كبير.
ممتنة جدًا لجميع الأشخاص الذين أثروا تلك التجربة بشكل مباشر أو غير مباشر، للأشخاص الذين حاولوا مساعدتي أو تخليصي من تلك الفوضى، للأشخاص الذين عملوا على استفزاز أفكاري وحتى كل الذين مروا فقط بجانبي وتركوا صورهم في عقلي لأرسم لهم قصصهم بنفسي.
كما ذكرت ترافقت تلك الفترة مع فقدان شهيتي للكتابة، أو إيماني بلا جدواها. أما الآن فإني أعود بخطة جديدة وحماس كبير للتدوين والكتابة، ربما سأبدأها بشكل فعلي خلال الشهرين القادمين.
بالنسبة لي كانت تجربة غنية فعلًا لم أندم للحظة واحدة لأني أغرقت نفسي بها، كما أعتبرها تجربة تستحق كتابة المزيد وربما أعود للكتابة عنها يومًا.